الإدارة في الإسلام – نماذج من العهد النبوي حتى العباسي

ونحــن نعــيش اليــوم عصــر الــدول الكبــرى التــي تحــرص علــى توفير أفضل خدمة للمواطنين، ولكي تحقق هذه الدول رسالتها فلابد لها مـن إدارة، والـدول أيـاً كانـت درجـة تقـدمها ونموهـا تحتـاج إلـى إدارة تزيـد مـن فاعليتهـا وكفائتهـا فـي تقـديم الخدمـة العامـة لمواطنيهـا؛ ولقـد أظهـر التاريخ أن توافر أهداف وسياسات واضحة للدولة لا يكفي لنجاحها، بـل أن معيار النجاح والفشل، إنما يتوقف إلى حـد بعيـد علـى قدرة الإدارة القائمـة على تنفيذ هذه الأهداف والسياسات .

وإذا كانــت الدولــة المتقدمــة قــد تقـدمت لأسـباب متعـددة أهمها الاعتماد الأساسي على الإدارة العلمية المحترفة، فـإن المنظمـات العامـة في الدول النامية هي التي تدير عملية التنميـة، بمعنـى آخـر فـإن حاجـة الـدول النامية إلـى الإدارة تفـوق حاجـة الـدول المتقدمـة إليهـا على عكس ما يتوقع الكثيرون كما يقـول بيتر دركر الأب الروحي لعلم الإدارة الآن.

“Effective management is probably the main resource of developed countries and the most needed resources of developing ones”

Peter Drucker,1969

وإذا كانــت الإدارة بهــذه الأهميــة فــي المجتمعــات اليــوم، فكيــف كانـت تـدار المنظمـات والدول قبـل ذلـك؟، والإجابة أن الإدارة قديمـة قدم التاريخ، و نفـس الكـلام بالنسبـة لللإدارة العامـة حيـث أن جذورها قديمـة قـدم البشرية قبل أن تكون علماً؛ ونعرض فيما يلي بإيجاز الإدارة في الإسلام من منظور المعايير الصارمة التـي كـان يـتم علـى أساسها اختيار الموظف أو الخـادم العــام فــي دولة الإسلام منذ العهد النبوي ومروراً بعهد الخلفاء الراشدين ثم العصر الأموي والعصــر العباسي.

تعريف إدارة الأعمال 

الإدارة هى وظيفة تنفيذ الأعمال عن طريق الآخرين باستخدام التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، وذلك من أجل تحقيق أهداف المنظمة بكفاءة وفاعلية، مع مراعاة المؤثرات الداخلية والخارجية.

مقالة ذات صلة: ما هي الإدارة؟ – تعريف الإدارة وأهميتها ووظائفها ومستوياتها

معنى الإدارة العامة

تتكون كلمة الإدارة العامة من كلمتين الأولــى Administration وهــي فــي الأصل كلمة لاتينية تتكون من جزئين Ad+minister حيــث Ad بمعنى To اما كلمــة Minister فبمعنى Serve أي أن الكلمة تعني To Serve والإدارة بـذلك تعنـي الخدمة علــى أســاس أن من يعمــل بالإدارة العامة يقــوم على خدمة الآخرين أو أن يصـل عــن طريـق الإدارة إلــى أداء الخدمة وهــذا هــو المعنى اللفظي لأصل الكلمة؛ أما الكلمة الثانية فهي Public أي عامة أي أنها تخص عموم الشعب والحكومة طرفهـا الثــاني تمييــزاً لها عن أنواع الإدارة الأخرى وأهمها الإدارة الخاصة “إدارة الأعمال”.

ويلاحظ أن الحكومـة هنـا تعنـي الوظيفـة التنفيذية فـــي الدولـــة، وبالرغم مـــن أن الإدارة العامة تـــرتبط بالحكومة إلا أنهـا أشمل مـن ذلـك حيـث تعنـي الإدارة العامة مجموعـة الأشخاص والأجهزة القائمة تحت سلطة الحكومة لأداء المهام التالية:

  1. تنفيــذ مختلــف القوانين واللوائح التي تختص بهــا أجهــزة الدولــة التنفيذية.
  2. إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين .
  3. أداء الخدمات العامة بالجودة المطلوبة وبالتكلفة المناسبة . 

أي أن الإدارة العامة باختصار تمثل مجموع النشــاط والعمل الحكومي الموجه نحو أداء الخدمات العامة والإنتاج الحكومي وذلك في ضوء المصلحة العامة للدولة ووفقاً لاحتياجات طالبي الخدمـة مـن أفـراد الشعب وعلـى هـذا فخلاصـة العلـم هـو تقـديم خدمـة عامـة Public أي لجميع الناس.

تعريف الإدارة العامة

الإدارة العامة Public Administration هي فرع من الموضوعات الأكثر شمولاً وهـو الإدارة، فالإدارة نشـاط يتعلق بتنفيذ الأعمال بواسـطة الآخــرين، فإذا كانت هذه الأعمال عامة أي تتعلـق بتنفيـذ السياسـة العامـة للدولـة أطلـق علـى الإدارة فــي هـذه الحالة الإدارة العامـة، وبالتالي فكلمة عامة هي صفة تصف النشاط الإداري بأنه عام Public أي لجميع الناس والحكومة طرف، واعلم عزيزي القارئ ان التعمق في تعريفات الإدارة العامة وتحليلها، لا يخـرج بنا بعيـداً عـن هـذا المعنى المبسط لأن المصـطلح يوضـح نفسه بنفسه !!

مقالة ذات صلة: الإدارة العامة: تعريفها، أهميتها، مبادئها، خصائصها

الإدارة في الإسلام

1. العهد النبوي

 كانــت الإدارة العامــة فــي عهــد الرســول الكـــريم تتســم بالبســاطة وكـان الموظفون ثلاثـة أنـواع هـم الولاة والعمال والقضاة، وكـان الرسـول يعينهم مباشـرة بعـد الاسـتيثاق مـن مقـدرتهم ونـزاهتهم عمـلاً بقولـه تعـالى (إن خيـر مـن اسـتأجرت القوي الأمين) سـورة القصـص الآيـة ٢١.

كمـا عـين فـي وظـائف القضـاء عـددا مـن كبـار الفقهاء المشهود لهم بالنزاهة والاستقامة نخـص بالذكر مـنهم الإمـام علـي بـن أبـي طالـب ومعـاذ بـن.جبل، وقد أثر عن النبي قوله “من ولى من أمر المسـلمين شـيئاً فـولى رجـلاً يجـد مـن هـو أصـلح للمسـلمين منـه فقـد خـان الله ورسـوله” ومـن ثـم كانـت الجـدارة هـي أسـاس شـغل الوظـائف العامـة فـي الإسـلام؛ وعرفـت الخدمة المدنية كخدمة عامة تستهدف إشباع حاجات المواطنين إذ روي عن الرسـول الكـريم قولـه “مـن ولاه الله مـن أمـر المسلمين شـيئاً فاحتجب عن حاجتهم احتجب الله عنه حاجته يوم القيامة “.

ولم يحدث في عهد الرسـول أن قـدمت شـكاوى ضـد أي موظـف وهو ما يرجع إلى الشعور القوي بالمسئولية فضلاً عـن حسـن الاختيـار، وكان صلوات االله وسلامه عليه بحـث العـاملين علـى حسـن الأداء بقولـه “إن الله يحب مـــن العامل إذا عمـــل أن يحســـن”، وهـــذا بالإضافة إلـــى الحديث العام لكل الناس والذي يقول فيـه “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عمــلاً أن يتقنه”، كمــا كــان الرســول يحاسب العمــال علــى المستخرج والمنصــرف وقــد استعمل ذات مــرة رجــلاً عـلـى الصــدقات فلمــا رجــع حاسـبه فقـال الرجـل هـذا لكـم وهـذا أهـدى لـي!

فقـال النبـي مـا بـال الرجـل نستعمله على العمـل بمـا ولانـا االله فيقـول هـذا لكـم وهـذا أهـدى إلـى! أفـلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى إليه أم لا؟؛ وقال من استعملناه على عمل ورزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول (أي خيانة),

2. عهد الخلفاء الراشدين

كـان عمـال الإدارة العامـة يعينـون فـي عهـد أبـي بكـر الصـديق بعـــد قضـــاء فتـــرة تمـــرين يتحـــدد فـــي ضـــوئها مـــدى صـــلاحية العامـــل للاستمرار في عمله أو تنحيته عنه، وقد تأكد مفهوم الإدارة العامة كخدمة عامـة فـي عهـد عمـر ابـن الخطـاب إذ روي عنـه قولـه للنـاس “إننـي لـم أبعـث إلـيكم الـولاه ليضـربوا أبشاركم ويأخــذوا أمــوالكم ولكــن ليعلمــوكم ويخــدموكم”، وكــان رضي الله عنه يتشدد في رقابة عماله فقد كان علمه بمن نأى عنه (بعد عنه) مـن
عماله ورعيته كعلمه بمن بـات معـه فـي مهـاد واحـد أي يتـابع البعيـد فـي أقصـى الدولـة الإسـلامية بنفس درجـة متابعتـه للقريـب الـذي يعمل معه في نفس البلد.

ولقـد بسـط عمـر رقابـة الشـعب علـى مـوظفي الدولـة عـن طريـق ممارسة المواطنين لحقـوقهم فـي الشـكوى مـن أي انحـراف فـي تصـرفاتهم وكان عندما ينصب والياً أو عاملاً يعطيه عهد تعيين يحتـوي علـى أمـر تنصــيبه وتحديــد ســلطاته وواجباتــه وكــان يعلــن ذلــك علــى المــلأ فــي المسجد حتى يعرف كل مواطن حقيقة سلطات الموظفين وواجباتهم؛ وقــد عــرف الخلفــاء الراشــدون مبــدأ تلازم السلطة والمسئولية ويكفي للدلالة علــى ذلــك قــول عمــر ” لــو عثــرت دابــة بشــط الفــرات لخشـيت أن أسـأل عنهـا يـوم القيامـة لـم (لمـاذا) لـم أمهـد لهـا الطريـق!!”

كمــا أنشــئت الــدواوين (الــدوائر) إذ وضــع عمــر أول ديــوان فــي الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة؛ وانصحك بالإطلاع على هذه المقالة المنفصلة بعنوان انجازات عمر بن الخطاب – عمر والإدارة الرشيدة

وقد أو جـز الإمـام علـي رضـى االله عنـه فـي بلاغـه أحـدث أسـاليب الإدارة العامة في اختيار العاملين وتحفيزهم ومراقبتهم حين أوصى عماله قائلاً لهم قـم وانظـر فـي أمـور عمالـك فاسـتعملهم اختيـاراً ولا تولهم لمحاباة أو أثرة.. وتـوخ مـنهم أهـل التجربـة والحيـاد.. ثـم أسـبغ علـيهم الأرزاق فـإن ذلــك قــوة لهــم علــى اســتطلاع أنفســهم وغنــى لهــم عــن تنــاول مــا تحــت يدهم.. ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ..

3. عهد الأمويين

 اشــتمل جهــاز الإدارة العامــة فــي العهــد الأمــوي علــى خمســة دواوين هي:-

  1. ديـوان الجنـد، ويُعنـي بالشـئوى الحربيـة
  2. ديـوان الخـراج ويخـتص بــإيرادات الدولــة ومصــروفاتها
  3. ديــوان الرســائل وهــو خــاص بالمكاتبــات والســجلات
  4. ديــوان الخــاتم حيــث تســجل أوامــر الخليفة وتحفظ نسـخ منهـا
  5. ديـوان البريـد المنـوط بـه نقـل الرسـائل.

ومـن ناحيــة الإدارة المحليـة فقـد قســمت الدولـة إلـى أربــع عشـرة ولايـة ولكـل ولايـة دواويـن محليـة هـي ديـوان الجنـد (الحربيـة) والرسائل (السكرتارية) والمالية.

ونظراً لاتساع أرجاء الدولـة الإسـلامية مـع صـعوبة المواصـلات فقـــد أقتضـــى حســـن الإدارة تفـــويض الخلفاء والـــولاة مباشـــرة ســـلطاتهمٕ عطائهم سلطة شبه مطلقة في ولاياتهم لتحقيق الفاعلية، هذا من حيث الفاعليـة، أمــا مــن حيــث الكفـاءة فنجد أن الخليفــة عمــر بــن عبد العزيز ينهي عماله عن الإسراف في استعمال الأوراق التي يكتبون فيها ويقـول لأحــد عمالــه ” أدق قلمــك، وقــارب بــين ســطورك وأجمع حوائجك فإني أكره أن أُخرج من أموال المسلمين مالا ينتفعون به”؛ وكـان يحـث عمالـه علـى رد الظلـم عـن النـاس وحـل مشـاكلهم دون الرجـوع للخليفـة ويـدعوهم إلى تبسيط الإجراءات والبت السريع الحاسم في الأمور.

وللخليفـة عمـر بـن عبـدالعزيز نظـرة عميقـة فـي تحفيـز العـاملين بجهاز الدولة كي يتفرغوا لخدمة المسلمين فقد قيل له، ترزق الرجـل مـن عمالـك مائـة ومـائتي دينـار فـي الشـهور وأكثـر من ذلـك؛ فقـال: “أراه لهـم يسـير إن عملـوا بكتـاب االله وسـنة نبيـه، وأحـب أن أفــرغ قلــوبهم مــن الهــم بمعاشــهم”!! فهــو يقــرر المرتبــات المجزيــة لمـوظفي الدولــة بمــا يكفــل لهــم نفقــات المعيشــة حتــى يتفرغــوا لأعمــالهم وخدمة المسلمين طالبي الخدمة.

4. عهد العباسيين

 فــي عهــد العباســيين حيــث كانــت بغــداد قاعــدة الإمبراطوريــة العربيـة المتراميـة الأطـراف اسـتحدثت دواويـن جديـدة مثـل ديـوان المظـالم وديـوان آخـر لتوثيـق الحسـابات فـي الولايـات بالإضـافة إلـى قيـام ديـوان البريد بعمل تقارير عن المواطنين؛ وهذا بالإضافة إلى إدخال نظم توحيد الوظائف حيث يتم تحديد متطلبات شـغل وظيفـة الـوالي (وهـو مـا يعـرف الآن بوصــف الوظــائف) علــى أســاس العدالــة والكفــاءة.

نقد الإدارة في الإسلام

ستلاحظ بعد قرائتك لهذه المقالة انه بالرغم من عظمة الأمثلة والنماذج في تاريخ الإسلام ما هي إلا اجتهادات لأشخاص إما بسبب ورعهم الديني او عبقريتهم القيادية، او إما أن تلك هي ظروف عصرهم وما اقتضته الحاجة لتكوين إمبراطوريات كبيرة وعظيمة، فالقرآن والسنة ليسوا كتاب إدارة ولا كتاب علوم، وحتي النصائح مثل الإتقان والعدل والمساواة موجودة في معظم الأديان الأخرى؛ وأن الإعتماد علي الورع الديني وأخلاق الشخص لكي يقوم بواجبه العام أمر خاطئ لأن الخدمة العامة هي خدمة لعموم الناس فيجب ان يتم محاكمة الموظف في الدنيا ولا ننتظر ورعه وخوفه من الله ولكن ننتظر خوفه من القانون، فما بينه وبين الله لا يخص الشعب في شئ.

ومن الملاحظ أنه كان يجب ان يقال الإدارة عند المسلمين الأوائل، وليس في الإسلام؛ لأن الإسلام لم يوضح خطوات ونقاط واضحة يجب اتباعها لكي يدار الشأن العام وأمور المواطنين؛ وحتى كلمة مواطنين كلمة حديثة والكلمة التي كانت تستعمل هي كلمة رعايا، وهي كلمة خاطئة بالنسبة للدول الحديثة لأن الشعب هو مصدر السلطات، وان الرئيس (الوالي) هو مجرد موظف. وأنصار فكرة الدولة الإسلامية تلقائياً لن يعترفوا بأن جميع المواطنين متساويين في الحقوق والواجبات، وأن الشعب هو مصدر السلطات؛ سيقولون ان مصدر السلطات هو مصدر الهي (القران والسنة) والشعب هو من يقوم بتفسيرهم، وان المسلم لديه حقوق أكثر من المسيحي او اليهودي المولودين في نفس البلد.

أعترف ان فكرة الدولة في الإسلام نقاشها يطول، ولكن من المهم أن نتفق علي الأقل علي ان في الإسلام (القرآن والسنة) لا يوجد طريقة واضحة لعزل الحاكم او كيفية تعيينه او حتي مدة حكمه او حتى طريقة محاسبته؛ وبالتالي فكرة الإدارة في الإسلام مرفوضة من وجهة نظري، وعلي الأقل يجب ان يقال كما وضحنا الإدارة عند المسلمين الأوائل.

فى النهاية آخر نقطة انت من ستضيفها فى التعليقات، شارك غيرك ولا تقرأ وترحل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *